العالم العربي بين نوعين من الثورات: ثورات الانقلابات العسكرية المزيفة وثورات الشعوب الحقيقية

العالم العربي بين نوعين من الثورات: ثورات الانقلابات العسكرية المزيفة وثورات الشعوب الحقيقية

بقلم محمد اسعد بيوض التميمي

المصدر:مركز دراسات وأبحاث الحقيقة الإسلامية
الرابط: www.assadtamimi.net
التاريخ:14\4\2011

 

عندما انهزمت (الدولة العثمانية) والتي كانت تفرد جناحيها على القارات الثلاث ( آسيا وإفريقيا وأوروبا) وتفككت وانهارت على أيدي الغزو الصليبي بعد (الحرب العالمية الأولى) والتي كانت تشكل (الإطار السياسي الجامع لأمة الإسلام) فأول ما قام به هؤلاء الغزاة الصليبيون هو شق الأمة الإسلامية الواحدة إلى أمتين، فصرنا (الأمة العربية) و(الأمة الإسلامية) ومن أجل تثبيت هذا الشق في جسد الأمة الواحدة أنشأوا (القومية العربية) لتكون في مواجهة الإسلام وبديلا عنه وكإطار سياسي بديل للدولة الإسلامية، وشقوا العالم الإسلامي إلى عالمين (عالم عربي) و(عالم إسلامي) وذلك لمنع وحدة المسلمين من جديد، وبعد ذلك قاموا بما هو أشد حقدا وخطورة حيث قاموا بتفتيت ما عرف بالعالم العربي بعد (الحرب العالمية الأولى) وتحويل هذه الفتات إلى دول ودويلات ومشيخات وإمارات منزوعة الإرادة، ورسموا لها بالفرجار والمسطرة والقلم حدودا، ووضع على كل حدود راية وعلامة سُميت ب (علم الاستقلال) لتميز الفتات عن بعضه، وعين على هذا الفتات قادة وزعماء وحكام أطلقوا عليهم ألقاب ومسميات مختلفة، وأنشأوا جامعة تحفظ هذا الفتات وتمنع توحده سموها (جامعة الدول العربية)، وأوكلوا لها مهمة الحفاظ على هذا التفتيت والتقسيم والانشطار، والعمل على ترسيخ التفرقة بين أبناء الأمة الواحدة، وهذه الدول الفتات ذات الأشكال المنتظمة وغير المنتظمة أصبحت تشكل خارطة عالمنا العربي التي رسمها (سايكس الإنجليزي وبيكو الفرنسي) حيث اقتسمت بريطانيا وفرنسا بموجب ما عرف (باتفاقية سايكس بيكو) هذه الخارطة بعد (الحرب العالمية الأولى) فكانت بريطانيا صاحبة النصيب الأكبر من العالم العربي، لذلك كانت معظم الدول في العالم العربي خاضعة وتابعة للإرادة البريطانية وتسيرها كيف تشاء.

واستمر هذا الحال إلى أن جاءت ( الحرب العالمية الثانية) التي استمرت ما بين عامي 1939- 1945 والتي كانت من نتائجها انهيار (النظام الدولي القديم) الذي نشأ بعد الحرب العالمية الأولى والذي تزعمته بريطانيا وفرنسا ونشوء نظام دولي جديد كان من أبرز نتائجه ظهور الولايات الأمريكية والإتحاد السوفيتي على مسرح الأحداث الدولي، واحتلت الولايات المتحدة دور اللاعب الرئيسي في صناعة وإدارة الأحداث وتراجع دور بريطانيا وفرنسا إلى الخلف، والذي مكن الولايات المتحدة من لعب هذا الدور هو أن بريطانيا وفرنسا خرجتا من الحرب مهلهلتين مترنحتين مفلستين وخصوصا فرنسا التي هُزمت في بداية الحرب واحتلها (هتلر) من البداية، وأن الولايات المتحدة الأمريكية كان لها الجهد الأكبر في دحر قوات دول المحور (ألمانيا واليابان وإيطاليا) ولولا هذا الدور لكان من الصعب تحقيق الانتصار، ونتيجة لهذا الدور وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها في المكان والزمان والقدرة على فرض إرادتها على بريطانيا وفرنسا وإجبارهما على التنازل عن مناطق نفوذهما في العالم وخصوصا في العالم العربي.

وما أن انتهت (الحرب العالمية الثانية) وبعد عدة سنوات وفي نهاية عقد الأربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن الماضي حتى بدأ تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في (مؤتمر يالطا) وهو إعادة توزيع النفوذ بين (دول الحلفاء) المنتصرة في الحرب، والسؤال المطروح في هذه الحالة كيف ستقوم الولايات المتحدة بنقل مناطق النفوذ البريطاني والفرنسي إلى نفوذها وسيطرتها؟؟ هل بالاحتلال العسكري المباشر كما فعلت بريطانيا وفرنسا؟؟؟ أم هل بالسيطرة غير المباشرة وذلك عن طريق تعين حكام جدد في هذه المناطق يقومون بالدور المطلوب منهم وبما يخدم مصالح الولايات المتحدة وبما ينوب عن الاحتلال العسكري المباشر؟؟؟

فبدأت أمريكا تنقل مناطق النفوذ البريطانية إلى سيطرتها ونفوذها بواسطة الانقلابات، فشهدت المنطقة سلسلة من الانقلابات المتتابعة بدءاً من انقلاب (حسني الزعيم في سوريا) عام 1949 ومروراً بانقلاب ( 23 يوليو) وبقية الانقلابات التي شهدتها معظم الدول العربية إلى غاية مطلع السبعينيات من القرن الماضي حيث استكملت الولايات المتحدة عملية نقل المنطقة من الحضن البريطاني إلى حضنها مع بقاء بعض الأنظمة دون قلبها ولكنها نقلت ولاءها من بريطانيا إلى أمريكا، وبقيت بعض الجيوب المحدودة جدا في بعض المناطق تتبع النفوذ البريطاني أطلق على هذه الانقلابات اسم (الثورات) وعلى منفذيها (بالثوار والضباط الأحرار ومجالس قيادات الثورات وصارت تعرف بالأنظمة الثورية التقدمية).

وأطلقوا الشعارات الرنانة والبراقة مثل (الوحدة والحرية والاشتراكية وتحرير فلسطين والتقدمية والثورية ومحاربة الاستعمار والرجعية). وأنشأوا (أجهزة أمنية متوحشة بل إنها تفوقت في وحشيتها على الوحوش في الأدغال) فهي لا تعرف الشفقة ولا الرحمة سُلحت بجميع أنواع أسلحة البطش والقمع، وأوكل إليها مهمة بناء حاجز وسد عال من الرعب والخوف والذعر وستار حديدي لتحجز خلفه الشعوب العربية وليسدوا عليها كل أبواب الرحمة وليفتحوا عليها كل أبواب العذاب. لذلك قام معظمهم بارتكاب مجازر وحشية ضد شعوبهم حتى أنهم هدموا البيوت على رؤوس أهلها وأزالوا مدناً بكاملها من الوجود لأنها طالبت بالحرية واستعادة الكرامة المهدورة، ونشروا الجوع والفقر والبطالة والتخلف والأمية، وأذلوا كل حر وعزيز في الأمة ورفعوا كل وضيع وخسيس ونذل، فصار أمر الأمة بيد هذه النوعية الشريرة من الناس، وحولوا الجيوش إلى قوات بوليس وشرطة لقمع الشعوب العربية ولحماية عروشهم المصنوعة من الجماجم، ووصل استخفافهم بالشعوب التي يتسلطون عليها بالحديد والنار.

 ولقد بالغت هذه الأنظمة وهؤلاء الخونة والعملاء المسلطين على رقاب الأمة بإذلال الشعوب التي يتسلطون عليها إلى أن طفح الكيل ولم يعد فيه متسع لنقطة واحدة، فمن شدة قهر هؤلاء الظلمة فإذا بصفعة ظالمة من شرطية مسلطة على الفقراء والمساكين من قبل هؤلاء المستكبرين في الأرض بغير الحق (((على وجه شاب بائس غلبان معدم (محمد البو عزيزي) يكد ويشقى على عربة متهالكة من أجل أن يحصل على لقمة عيش كريمة مغمسة بالعرق بالكاد تسد جوع أهله الذين يعيلهم وكأنه محرم على هذا أن يحصل على هذه اللقمة دون أن تغمس بالذل والهوان وسحق الكرامة كما يريد هؤلاء المجرمون الذين يسمون أنفسهم حكاما، فهم قد حرموا لقمة العيش الكريمة على الشعوب فيجب أن تغمس بالذل))) فإذا بهذه الصفعة من هذه الشرطية المجرمة على وجه هذا الشاب الحر عزيز النفس الذي اسمه يدل على عزته (فالاسم وسم ) وكل له من اسمه نصيب كما يقولون، فهو البوعزيزي أي أبو العزيز الذي لم يحتمل هذه الإهانة البالغة فإذا به من شدة إحساسه بكرامته وبوطأة الظلم والقهر الذي وقع عليه دون سبب إلا انه يسعى خلف لقمة عيش كريمة يشعل النار بنفسه، فإذا به يشعل تونس غضبا من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب وتندلع فيها نيران ثورة عارمة عنوانها (الحرية والعزة والكرامة) وإذا بظالم تونس وشريرها ومُصادر حريتها وناهب ثرواتها يهرب من أمام هذه النيران المشتعلة قبل أن تحرقه بعد أن حرقت عرشه، وإذا بالشرر المتطاير من هذه الثورة يُشعل الثورات الشعبية في مشارق ومغارب العالم العربي، وإذا بهؤلاء الطواغيت يصابون بالذعر والخوف والرعب، وإذا بهم يتوسلون لشعوبهم بأن يُوقفوا ثوراتهم مقابل أن يُعيدوا لهم حريتهم وتحقيق مطالبهم، ولكن الشعوب تبين أنها قد تخلصت من ثقافة الرعب والذعر والخوف و استعادت إرادتها ووعيها وفاقت من غيبوبتها وبأنها لا تخدع بمثل هذه الوعود من مثل هؤلاء الناس الذين أذاقوهم وبال أمرهم، فكان الرد (ارحلوا نريد إسقاط النظام، نريد الحرية نريد كسر القيد وأن ينجلي الليل الذي خيم علينا طويلا بوجودكم.)

وهاهو الفجر يؤذن في العالم العربي معلنا أن الليل قد بدأ ينجلي وان الحرية بدأت تتنفس وأننا على موعد مع فجر جديد. فهذه الثورات التي يشهدها العالم العربي هي ( الثورات الحقيقية وتجب ما قبلها من ثورات مزورة ومزيفة نسجت هذا الواقع المظلم الذي فيه الظلم والقهر والعذاب والذل والهوان طبقات تعلوها طبقات فما نسجته الثورات المزورة والمزيفة التي صنعتها المخابرات الأمريكية تمزقه الآن الثورات الحقيقية التي تصنعه الشعوب.)

أما القول بأن هذه الثورات الشعبية مشبوهة وتقف وراءها جهات معينة وخصوصا أمريكا، فهذا التشكيك إما صادر عن جهات تابعة للأنظمة المتسلطة على رقاب الشعوب وتخشى هذه الثورات فتعمل على التشكيك بها من أجل محاربتها وإجهاضها وعن الأنظمة التي تواجه هذه الثورات، وإما صادر عن ثقافة الهزيمة والانكسار وثقافة الرعب والذعر والخوف والعبودية التي غرستها الأنظمة الظالمة في وجدان الشعوب، فصار من يقول بهذا القول على قناعة كاملة بأن هذه الشعوب لن تثور والظلم والطغيان بسبب هذه الثقافة السائدة، والذي يقول بأن أمريكا هي وراء هذه الثورات يستدل بموقف أمريكا من عميلها حسني مبارك ومن عميلها القذافي ولكننا نقول له إن أمريكا تتعامل مع الواقع، ففي البداية ساندت حسني مبارك وأعطته مجالا لمدة أسبوعين من أجل أن يجهض الثورة ولكن عندما تبين لها بأن ما يجري في مصر هو ثورة حقيقية إذا لم تسارع لتتعامل معها بإيجابية فإنها ستخسر مصر وشعبها فسارعت إلى ركب الموجة العاتية للثورة بدلا من الاصطدام بها وعدم المراهنة على ورقة حسني مبارك التي حُرقت وأصبحت خسرانه وستخسر أمريكا معها، فالشعب المصري هو الذي فرض إرادته على أمريكا وأجبرها على تغيير موقفها من مبارك والتخلي عنه وعن نظامه.

 ونفس الشيء حدث في ليبيا، فلقد أعطي القذافي أسبوعين كانت أمريكا خلالهما ملتزمة الصمت على ما يجري ولكن تحرك بريطانيا وفرنسا السريع واتخاذهما موقفاً ايجابيا من هذه الثورة أجبر أمريكا أن تغير موقفها خوفا من أن تحتل بريطانيا وفرنسا مكانها فأخذت موقفا متقدما على موقف بريطانيا وفرنسا وظهر ذلك بوضوح عندما تقدمت بريطانيا وفرنسا بمشروع قرار لهيئة الأمم المتحدة بفرض الحظر الجوي فإذا بالولايات المتحدة تضمن القرار عدة بنود لم تكن مذكورة في مشروع القرار وهذه البنود (استخدام القوة لحماية المدنيين من مذابح القذافي وفرض عقوبات اقتصادية وسياسية) وها هو القذافي مذهول من تخلي أمريكا عنه فهو غير مصدق وها هو يتذلل لها ويقبل حذاء الرئيس الأمريكي ولكن دون جدوى فسنة الله بمن هو مثله لن تتبدل مهما حاول .

وهكذا استطاعت هذه الثورات أن تعيد صياغة المعادلات السياسية الدولية التي كانت تحكم العلاقات مع الأنظمة المتسلطة في عالمنا العربي، فجعلتها تنحاز للشعوب بدلا من الأنظمة عدوة الشعوب وخصوصا أن أمريكا تبين لها بأن هذه الأنظمة الإجرامية القمعية صارت تشكل خطرا على مصالحها في العالم وعلى أمنها القومي حتى في داخل أمريكا. فجاهل وغبي ولا يتمتع بأي وعي سياسي أو ثقافة سياسية حقيقية كل من يظن أو يعتقد أو يؤمن بأن العالم العربي قد تحرر من الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، فكل ما في الأمر بأن العالم العربي كان قبل الحرب العالمية الثانية ومنذ الحرب العالمية الأولى يُحكم بجيوش الاستعمار المباشر البريطانية والفرنسية وبعد الحرب العالمية الثانية أصبح يُحكم من خلال الثورات المزيفة والانقلابات العسكرية بالاستعمار غير المباشر المتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية التي صنعت هذه الانقلابات، فتحرير العالم العربي يتم الآن بما يشهده من ثورات شعبية حقيقة هي من صناعة الشعوب وليس من صناعة أي جهة كانت.

 فالحذر الحذر الحذر أيها الشعوب الثائرة المنتفضة في وجه الظلم والطغيان من التراجع إلى الخلف أو أن تسرق ثوراتكم من أي جهة كانت أو تجهض من قبل فلول الأنظمة البائدة المتهاوية ذات الجذور الممتدة عبر عقود طويلة والتي لا يمكن خلعها بيوم وليلة وخصوصا أن هذه الجذور لديها قدرة على التلون مع الواقع، فعليكم متابعتها وخلعها من أصولها حتى لا تنبت من جديد وبدون ذلك ستبقى هذه الثورات مهددة بالفشل والنقصان من قبل هذه الجذور الشيطانية، فيجب أن تبقى عيونكم متيقظة ترقب دبيب النمل على الأرض وعليكم أن تعلموا بأن الإطاحة بهؤلاء الطواغيت تتلوها مرحلة انتقالية غير مستقرة تشهد تغيرا جذريا قد تطول بعض الوقت فلا توقفوا ثوراتكم إلا بعد أن تنجزوا جميع أهدافها .

فيا أيها الشعوب الحرة الآبية إن الفرصة الآن سانحة واللحظة التاريخية مناسبة تماما لنيل حريتكم والفوز بها والتخلص من الذل والهوان، فانهضوا واستمروا على بركة الله، فالنصر حليفكم فالعقد قد انفرط ولن يستطيع أحد أن يعيده إلى ما كان عليه قبل أن يقوم البوعزيزي رحمه الله بفرطه بإشعال نيران هذه الثورات المتميزة من الغيظ.

 وَلِلحُرِيةِ الحمراءُ باب               بِكُلِّ يدٍ مُضرّجةٍ يُدَقّ

 فها هي الشعوب العربية بدأت تدق باب الحرية بيدها المضرجة بالدم بقوة.

محمد أسعد بيوض التميمي

مدير مركز دراسات وأبحاث الحقيقة الإسلامية